نموذج تطبيقي في الكتابة الفلسفية حصريا

النصوص : نص كانط ومونييي وغوسدورف
      يشكل الوضع البشري موضوعا هاما في تاريخ الفكر الفلسفي، وترجع جذور هذا الإهتمام إلى المراحل الأولى لظهور الفلسفة، نظرا لما يتميز به الوجود الإنساني من تعقيد وغموض. فالإنسان تساهم في تشكيله وتحديده مجموعة من الأبعاد والخصائص ذات البعد البيولوجي الأخلاقي والعقلي والإجتماعي، فهو يوجد كما توجد باقي الكائنات كعضو بيولوجي يخضع لقوانين الطبيعة لكن إمتلاك الإنسان لملكة العقل التي مكنته من
الإرتقاء على باقي الكائنات، فكون الذات الإنسانية مفكرة وواعية ومستقلة تجعل منه شخصا مسؤولا مسؤولية أخلاقية وحقوقية عن تصرفاته الذاتية وعن علاقته مع الذوات الأخرى. ومنا ماجعله يحظى بقيمة سامية لاتقدر بثمن وأيضا جديرة بالتقدير والإحترام وغير أن الشخص ورغم قيمته فإنه لايعامل بشكل سامي بل العكس من ذلك يتم إستغلالها والتعامل معه كما لو كان شيئ. فمن أين يستمد الشخص قيمته إذا ؟ هل من ذاته أم مما هو خارجي ؟ وما طبيعة هذه القيمة ؟ هل هي غاية في ذاتها أم مجرد وسيلة ؟ ومن الذي يميز الشخص عن باقي الأشياء ؟ وما هو القانون الذي يمكننا من التعامل مع الشخص كغاية في ذاته ؟ وهل هو الإلتزام بمبدأ "الأمر المطلق" أم الإنصياع للميولات والرغبات الغريزية ؟ وهل يكفي الإنعزال والإنطواء لتحقيق القيمة الأخلاقية للشخص أم أن الأمر يتطلب الإنفتاح على المجتمع ؟

      إن إمتلاك الشخص للعقل يرفع من مكانته فوق مكانة جميع الكائنات فإمتلاكه للعقل يجعل منه غاية في ذاته وهي تلك الغاية الموضوعية الثابتة والمطلقة والتي ليست بعدها غاية إنها غاية الغايات لذا لاينبغي التعامل معه على أساس أنه مجرد وسيلة، كما لاينبغي أن تتحكم فيه موضوعات الميول والرغبات الغريزية لأن قيمتها مشروطة أي أن وجودها يرتبط بما تحققه من نتائج ومنافع ذاتية ولو إنتَّفت من تلك المنافع والمصالح في ما نرغب ونميل إليه لما كانت لها أية قيمة. إن الموجودات المحرومة من العقل لاتحظى إلا بقيمة نسبية ولهذا يمكن إستخدامها إستخداما مشروعا كوسائل لأنها مجرد أشياء في حين أن الكائن الإنساني لاينبغي أن ينظر إليه كما لوكان شيئا لأن القيمة التي يمتلكها هي قيمة مطلقة وغير مشروطة بنتائج معينة. ولتحقيق هذا صاغ كانط قانونا إلزاميا سماه ب "الأمر المطلق" وهو مبدأ يتأسس على العقل العملي الأخلاقي، والذي لامجال فيه للأهواء والميولات الذاتية، مقتضى هذا "الأمر المطلق" هو{ تصرف على نحو تعامل فيه الإنسانية في شخصك كما في شخص غيرك، دائما وأبدا، كغاية في ذاته وليس مجرد وسيلة } يتضح من خلال هذا أن إمانويل كانط يسعى ويهدف إلى تأكيد أطروحة أساسية مفادها أن إمتلاك الشخص لعقل عملي أخلاقي يوجب عليه التصرف مع ذاته ومع غيره على أساس مقتضيات الأمر المطلق الذي يرفع من قيمته إلى غاية في ذاته، والتي تجعله محط تقدير وإحترام ولإثبات أطروحته لجأ الفيلسوف إلى مجموعة من الأساليب الحجاجية، نذكر منها المنهج الإستنباطي حيث تدرج في عرض موقفه من العام إلى الخاصن وقد إستعان أيضا بأسلوب المماثلة حيث أنه قابل بين الأشياء والأشخاص، ويمكن تبرير إستخدام كانط لهذا الأسلوب بإيمانه بأن إبراز قيمة الشخص المعنوية تتوقف على تبيان ما يتميز به عن الأشياء، كما وظف أيضا أسلوب الإستدلال، حيث قام بإستنباط قانون "الأمر المطلق" من مقدمتين لاتؤديان إلى نتيجة واحدة.
       
        تكمن قيمة الأطروحة التي يدافع عليها كانط في إعطاء الإنسان قيمة أخلاقية سامية، فهو أول من أسس تأسيسها فلسفيا للأمر المطلق، أو للمبدأ الأخلاقي القاضي بالتعامل مع الشخص كغاية في ذاته لا كوسيلة، وذلك من منطلق إمتلاكه لعقل عملي أخلاقي قادر على التشريع لواجب أخلاقي ويجعل الشخص متجاوزا لكل سعر، وممثلا بكرامة إنسانية تجعله جديرا بالإحترام، وفي نفس السياق يؤكد إمانويل مونييي ذلك. لكن من زاوية أخرى مستفيدا من إنجازات الفلسفة المعاصرة والعلوم الإنسانية بدوره يؤكد أن الشخص ليس موضوعا كما أنه لاينبغي تمثله كموضوع على إعتبار أنه يشكل واقعا كليا يتكامل فيه المحددين الجسدي والعقلي فالشخص حسب مونييي ليس صورة أو جسد أو إسما أو إنتماء أو مكانة، إنما هو قيمة لانرها بل نحس ونشعر بها، لكن رغم هذه الأهمية التي يكتسبها هذا التصور فإنه يبقى قاصرا من طرف الفلاسفة المعاصرين وعلماء الإجتماع على الخصوص لأنه جرد حسبهم الشخص من إنتماءه البيولوجي والإجتماعي، فهل يعني هذا أن المجتمع هو الاخر له دور في تحديد وتشكيل قيمة الشخص؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يساهم المجتمع في تحديد قيمة الشخص؟
       
      إذا كان كانط تناول قيمة الشخص من منظور ميتافيزيقي مجرد ومفارق للواقع ومتعال عنه فإن جورج غوسدورف على العكس من ذلك تناول هذا الموضوع من منظور واقعي ملموس، فقيمة الشخص لاتستمد من كونه ذات مستقلة وقادرة على العيش بمفردها، بل إنها تستمد من كونه ذات تعيش داخل جماعة، وهذا العيش داخل الجماعة يستوجب الإنفتاح عليها وتنمية روح التكافل والتضامن بين الأفراد. وقد ميز غوسدورف بين مفهوم الفرد ومفهوم الشخص، فالفرد هو الذي يتوهم أنه قادر على الإستقلال عن الجماعة ويغرق في قيم الأنانية، ويضع نفسه في تعارض مع الأخرين بل ومع العالم كله، في حين أن الشخص الأخلاقي هو الذي يتخلص من هذا الوهم ويقتنع بأنه لايمكن أن يوجد وأن يعيش إلا بالمشاركة مع الأخرين والإنفتاح عليهم، فالشعور الأخلاقي يلزم الإيمان بأن العالم ليس فضاء للذات وحدها بل هو فضاء لتلاقي ذوات كثيرة تتعاون وتتضامن جميعها من أجل غاية مشتركة، وهي تحقيق الكمال الإنساني.

      مهما تعددت المقاربات التي تناولت قيمة الشخص، وإنْ إختلفت مرجعياتها، وتباينت خلفياتها النظرية فإنها جميعا تؤكد على شيئ واحد وهو أن الشخص يمتلك قيمة تسمو به فوق جميع الكائنات، وتجعله غير قابل للتشيئ أو المساومة أو التسعير لأنه كائن يمتلك كرامة إنسانية تجعله جديرا بالإحترام والتقدير إحترام يراعي كل مكوناته المتداخلة من جسد، وعقل، ونفس، وجنس، وإنتماء ثقافي وديني...، لذلك فالإحترام الذي يوجه إلى هذا الشخص ينبغي أن يكون إحتراما مطلقا وغير مشروط.

إنجاز : أستاذ الفلسفة أمحور، بمشاركة تلاميذ السنة الثانية باك شعبة العلوم والتقنيات الكهرابائية وكذا الميكانيكية بثانوية الليمون.

جميع الحقوق محفوظة لمدونة 3elmo.com نقل بدون تصريح أو عدم ذكر مصدر هذا المقال ممنوع منعا بتا.

المصدر : http://www.3elmo.com/2014/12/Philosophical-writing-methodology-model.html

إشترك ليصلك جديد الدروس والمواضيع!

0 comments:

إرسال تعليق

الأكثر تصفحا هذا الأسبوع

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة